السودان بعد الصراع- رؤية لبناء دولة مدنية ديمقراطية قوية

المؤلف: د. حامد التجاني08.16.2025
السودان بعد الصراع- رؤية لبناء دولة مدنية ديمقراطية قوية

لقد حملت الثورة السودانية، التي صدحت بشعار "حرية.. سلام.. وعدالة"،  أسمى معاني المواطنة المتكافئة، حيث يتطلع كل فرد، بصرف النظر عن معتقداته السياسية أو الدينية أو القبلية، إلى أن يعيش حياة كريمة ومزدهرة في وطنه.

وانطلاقاً من أن مفهوم المواطنة الراسخ على الحقوق والواجبات يشكل أساساً لدولة المؤسسات المدنية الديمقراطية، فقد كان من بين الأهداف السامية للثوار الأحرار إصلاح المؤسسة العسكرية وإقامة مجتمع مدني ديمقراطي راسخ. ومع ذلك، فإن المناوشات السياسية والسعي المحموم وراء الحواضن العسكرية من قبل بعض التيارات المدنية قد أدت إلى إضفاء الطابع العسكري على الفضاء السياسي والاقتصادي، وساهمت بشكل كبير في تمرّد فصيل من القوات المسلحة.

ومع التسليم بأن قوات الدعم السريع، التي كانت تُعرف سابقاً باسم الجنجويد، هي من صنع نظام الرئيس السابق عمر البشير، إلا أن توسع وتطور هذه القوات على الصعيدين الاقتصادي والسياسي قد حدث بوتيرة متسارعة خلال الفترة الانتقالية لحكومة قوى الحرية والتغيير (قحت) المحسوبة على الثورة.

إن التحدي الأكبر الذي يواجهنا الآن يتمثل في تقديم رؤى واضحة المعالم بعد هذا الصراع الدامي، والتعامل بحكمة مع جذور وتداعيات الأزمة ومآلاتها. وهذا يستلزم تفكيراً عميقاً في فترة ما بعد الحرب وهزيمة مليشيا الدعم السريع، وكيف يمكننا أن نسهم بفاعلية في رسم مستقبل الوطن على نحو يحافظ فيه على وحدة أراضيه ويصون دماء شعبه ويحقق السلام الشامل والعادل في جميع ربوعه، السلام الذي يتمتع به وينتفع من خيراته السواد الأعظم من الضحايا الذين ما زالوا يعانون في معسكرات النزوح واللجوء.

ولا ريب أن الفشل السياسي الذريع والمدمر الذي مني به أولئك الذين تصدوا لإدارة الفترة الانتقالية كان السبب الأكبر في ما نتج من موت وخراب وانهيار اقتصادي وتصدع سياسي واجتماعي، مما فاقم من إخفاق الدولة السودانية وعطّل مؤسساتها وعرّض البلاد لاختراق الطامعين على نحو غير مسبوق.

وعليه، فإنه لا بد من تضافر جهود أهل الرأي والفكر في جهد جماعي واسع الأفق وبإرادة وطنية مخلصة، للمساهمة الفعالة في تشكيل المشهد السياسي والإستراتيجي للوطن، بما يجنبنا الانزلاق إلى المزالق التي أدت إلى هذه الأزمة وإلى هذا الانهيار الكبير للمؤسسات وإهدار الإمكانيات والموارد.

وتأتي الأولوية القصوى لترتيب البيت المدني الذي تم اختطافه من قبل فئات فاقدة للأهلية والبوصلة الأخلاقية، وهذا يتطلب بدوره قيام طليعة تَنذُر نفسها للتصدي لمهام التخطيط الإستراتيجي المتقدم والمتبصر الخالي من الغرض والاستقطاب السياسي، واتخاذ المصلحة الوطنية العامة دليلاً وهادياً في أي نقاش للخيارات والخطط المستقبلية لإرساء أسس الحرية والعدالة والبناء الديمقراطي السليم، وتكون هذه الطليعة جامعة لكل أطياف المجتمع وقطاعاته وفئاته، تطرح أفكارها ومقترحاتها بعيداً عن الشخصنة والشللية والعصبيات الضيقة التي أوردت البلاد موارد الفشل والهلاك.

والأولوية هنا هي الوقوف بحزم أمام المحاولات المشبوهة لإعادة إنتاج نفس الفئات والشخصيات التي صنعت الفشل وانتزعت الهزيمة من فك انتصار شعبنا العظيم، والمسؤولة عن الدمار الحالي تحت شعارات براقة حول السلم ورفض الحرب، ومواجهتها بتحرك وطني جاد من الوطنيين المخلصين من غير المتورطين في تجارب الفشل المريرة ومن غير الطامعين في المغانم والمصالح الضيقة على حساب الشعب والثورة.

إدراكاً ووعياً بهذا التحدي الكبير، ندعو الآن إلى قيام تيار وطني عريض يتصدى لمهام هذه المرحلة ويضطلع بواجب طرح رؤية وطنية لبديل وطني حقيقي للفترة القادمة، بعيداً عن أي مطامح حزبية أو تطلعات سلطوية وبعيداً عن أي ارتهان للخارج وقعت فيه قوى الفشل والاستقطاب.

وتكون الأولوية هي طرح رؤية واضحة لكيفية بناء السلطة المدنية الديمقراطية المرتضاة من الشعب وغير المرتهنة للمليشيات والقوى الاستبدادية الأجنبية التي تسندها بغرض الاستعباد والنهب ورهن مستقبل البلاد لمصالح بعينها، ويمتلك هذا التيار الكفاءة والنزاهة والعزيمة لإنجاز مهام المرحلة بدون تهاون أو تحيز ضيق.

السودان اليوم مخترَق بصورة غير مسبوقة، فهنالك 19 ألف منظمة طوعية تعمل فيه، ألفان منها منظمات وطنية، صرفُ هذه المنظمات يعادل 1.5 مليار دولار، وهناك 13 منظمة منها تابعة للأمم المتحدة

ويكون من مهام المرحلة التالية:

بناء جيش وطني قوي

الجيش الوطني هو الركيزة الأساسية والعمود الفقري للدولة، وهناك تشوهات واضحة في منظومة القوات المسلحة جراء تدخلها في الشأن السياسي واستخدامها للمليشيات في حروبها الداخلية.

لقد تطورت مليشيا الجنجويد من مليشيات هدفها القتل والنهب إلى قوة ضاربة لديها علاقات دولية وتعاون أمني مع الكيان الصهيوني، وأصبحت تتحكم في موارد البلاد وتحتكر الموارد الريعية والتصدير واستيراد السلع الإستراتيجية، وتقدّر ثروة الدعم السريع وزعيمها بنحو 10 إلى 13 مليار دولار.

أحد الأخطاء الجسيمة في ظل حكومة قحت برئاسة عبد الله حمدوك هو تعيين قائد الدعم السريع رئيساً للجنة الطوارئ الاقتصادية، والذي بدوره أنشأ محفظة ضخمة لاستيراد السلع الأساسية بمعدل هامش أرباح تصل إلى 20% من التكلفة، مما أسفر عن تضخم ثروته في فترة حكومة حمدوك أضعافاً مضاعفة، كما تضاعف حجم قوته العسكرية إلى 118 ألف جندي، فيما كانت في عهد النظام البائد تقدّر بـ18 إلى 20 ألف مسلح.

لقد كانت الفترة الانتقالية فرصة سانحة لقوات الدعم السريع لبناء ترسانة اقتصادية هائلة، وعليه فإن تفكيك ترسانتها الاقتصادية لا يقل أهمية عن تفكيك بنيتها العسكرية.

ومن نافلة القول إن هناك قوات تابعة للحركات المسلحة الأخرى تنتظر استيعابها في القوات المسلحة، فلا بد من دمج وتسريح كل التشكيلات المسلحة على الأسس الدولية المتعارف عليها التي تشمل دمج قطاعات منها في القوات المسلحة الوطنية والأجهزة الأمنية الأخرى بصورة تراعي أيضاً المصلحة العامة للقطاعات المتضررة، وليس فقط مصالح جهات حزبية أو جهوية بعينها.

ولا بد من مهمة بناء القوات المسلحة على أسس مهنية راسخة بعيدة عن أي تجيير سياسي، كما لا بد من تنحي القيادة الحالية وإتاحة الفرصة لقيادات جديدة لإجراء الإصلاحات الضرورية.

التصدي للمهام الإنسانية

حسب المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة، يبلغ عدد النازحين داخل السودان بسبب القتال الدائر حتى الآن 700 ألف إنسان، ولا ننسى أن هنالك نزوحاً قبل هذه الأحداث في دارفور يقدّر بـ3 ملايين و200 ألف نازح، وأيضاً هنالك نزوح في جنوب كردفان والنيل الأزرق.

ولذلك لا بد من إيصال المساعدات وتوفير الأمن ووقف جميع الانتهاكات وتوفير سلاسل الإمداد عبر التنسيق الوثيق مع دول الجوار والمجتمع الدولي، فعودة النازحين إلى مناطقهم ومدنهم ستكون من أولويات ومهام الحكومة الانتقالية، كما أن التصدي للمهام الإنسانية أصبح ضرورة ملحة للسودان ودول الجوار، خاصة مصر.

الإصلاح الاقتصادي

لقد بدأت الدولة في إجراء إصلاحات جوهرية أفشلها ضعف حكومة عبد الله حمدوك، والأولوية الآن يجب أن تُمنح إلى تأهيل القطاع الزراعي ورفع القيود البالية عنه، وخلق عناقيد صناعية متطورة حول المناطق الزراعية، وتطوير وتشجيع الصناعات الصغيرة والمتوسطة، وتطوير القطاع المصرفي الحيوي، وتوجيه المستخلص من الموارد الريعية إلى تطوير قطاعي التعليم والصحة، ولا بد للدولة من احتكار تصدير الصمغ العربي الثمين وحماية المنتجين.

العدالة الانتقالية

الإفلات من العقاب سمة متجذرة في السياسة السودانية، والنتيجة الحتمية هي تكرار المآسي ذاتها، فما حدث في جنوب السودان تكررت نسخته بصورة أكثر بشاعة في دارفور وتكرر اليوم في عاصمة البلاد، فلا بد من بناء مؤسسات عدلية تعمل بأعلى المعايير الدولية، فيها فصل كامل للسلطات، وتعمل بمهنية عالية من دون أي تسييس، وتساعد الدولة والمجتمع على تطبيق العدالة الانتقالية بعيداً عن التشفي والانتقام، ويتم عبر هذه المؤسسات استرداد الأموال المنهوبة في عهدي الإنقاذ والفترة الانتقالية، ومحاكمة مجرمي الحرب في دارفور والخرطوم، ولا بد من غرس مبادئ العدالة على أسس عقلانية وواقعية بعيداً عن التطرف والاستقطاب.

ترميم العلاقات الخارجية

السودان اليوم مخترَق بصورة غير مسبوقة، فهنالك 19 ألف منظمة طوعية تعمل في السودان، ألفان منها منظمات وطنية، صرفُ هذه المنظمات يعادل 1.5 مليار دولار، وهناك 13 منظمة منها تابعة للأمم المتحدة.

يجب حصر أنشطة هذه المنظمات وتقنين عملها في مجالات تنموية، وليس كأدوات سياسية لتشكيل المشهد السياسي بعيداً عن الوصاية، ولا بد من ترميم علاقات البلاد الخارجية مع دول الإقليم والمؤسسات الدولية وكل دول العالم حتى تُحترم سيادة البلاد ومصالح أهل السودان.

كما يجب رفض التدخل السافر في شؤون البلاد، وقد يتطلب هذا مراجعات دقيقة لبعض الاتفاقيات القائمة بما يخدم المصلحة العامة ويساعد في تحقيق مكاسب ملموسة في مجالات التنمية والازدهار الاقتصادي والدعم للفئات الأضعف والأكثر تضرراً.

دعونا إذن نفكر بحكمة وروية وتجرد في المستقبل، بعيداً عن نسق التفكير الفئوي قصير النظر، وذلك أملاً في أن يكون شبابنا جزءاً لا يتجزأ من المشهد ومساهماً نشطاً وخلاقاً في تشكيل الحياة الجديدة لسودان المستقبل والأمل، والذي يتشكل أمام ناظرينا.

وينبغي أن تتاح الفرصة كاملة لدماء جديدة تتولى تمثيل الفئات المتضررة في كل أنحاء السودان، بما فيها دارفور وشرق السودان، دون أن يقتصر ذلك على مناطق النزاع وحدها، وبعيداً عن القيادات والنخب الحالية التي تتحمل المسؤولية الكاملة عن الدمار الحالي وتتحمل مسؤولية الفشل والانهيار.

يجب أن يكون لدينا أمل راسخ وثقة كاملة في مقدرة هذا الشعب وشبابه الواعد في بناء سودان السلام والحرية والعدالة، فبدون هذا الأمل المتجدد سننزلق حتماً إلى فخ التفكير العدمي غير المتعقل، وتتلبسنا روح انهزامية تعطل التفكير الخلاق حول بناء مستقبل مشرق ومزدهر، وهذا ما تعلمناه من شباب الثورة وتضحياتهم الغالية وأدبياتهم الراقية، وهذا الأمل يتجسد بوضوح في واحد من شعارات الثورة الخالدة وهو شعار "حنبنيهو".

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة